كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم}.
ذلك. الذي خلق السماوات والأرض. والذي استوى على العرش. والذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. {ذلك عالم الغيب والشهادة}. المطلع على ما يغيب وما يحضر. وهو الخالق المسيطر المدبر. وهو {العزيز الرحيم}. القوي القادر على ما يريد. الرحيم في إرادته وتدبيره للمخاليق.
{الذي أحسن كل شيء خلقه}.
واللهم إن هذا هو الحق الذي تراه الفطرة وتراه العين ويراه القلب ويراه العقل. الحق المتمثل في أشكال الأشياء، ووظائفها. وفي طبيعتها منفردة وفي تناسقها مجتمعة. وفي هيئاتها وأحوالها ونشاطها وحركاتها. وفي كل ما يتعلق بوصف الحسن والإحسان من قريب أو من بعيد.
سبحانه! هذه صنعته في كل شيء. هذه يده ظاهرة الآثار في الخلائق. هذا كل شيء خلقه يتجلى فيه الإحسان والإتقان؛ فلا تجاوز ولا قصور، ولا زيادة عن حد الإحسان ولا نقص، ولا إفراط ولا تفريط، في حجم أو شكل أو صنعة أو وظيفة. كل شيء مقدر لا يزيد عن حد التناسق الجميل الدقيق ولا ينقص. ولا يتقدم عن موعده ولا يتأخر. ولا يتجاوز مداه ولا يقصر. كل شيء من الذرة الصغيرة إلى أكبر الأجرام. ومن الخلية الساذجة إلى أعقد الأجسام. كلها يتجلى فيها الإحسان والإتقان. وكذلك الأعمال والأطوار والحركات والأحداث. وكلها من خلق الله. مقدرة تقديرًا دقيقًا في موعدها وفي مجالها وفي مآلها، وفق الخطة الشاملة لسير هذا الوجود من الأزل إلى الأبد مع تدبير الله.
كل شيء، وكل خلق، مصنوع ليؤدي دوره المقسوم له في رواية الوجود، معد لأداء هذا الدور إعدادًا دقيقًا، مزود بالاستعدادات والخصائص التي تؤهله لدوره تمام التأهيل. هذه الخلية الواحدة المجهزة بشتى الوظائف. هذه الدودة السابحة المجهزة بالأرجل أو الشعيرات وبالملاسة والمرونة والقدرة على شق طريقها كأحسن ما يكون. هذه السمكة. هذا الطائر. هذه الزاحفة. هذا الحيوان. ثم هذا الإنسان. وهذا الكوكب السيار وهذا النجم الثابت. وهذه الأفلاك والعوالم؛ وهذه الدورات المنتظمة الدقيقة المنسقة العجيبة المضبوطة التوقيت والحركة على الدوام. كل شيء. كل شيء. حيثما امتد البصر متقن الصنع. بديع التكوين. يتجلى فيه الإحسان والإتقان.
والعين المفتوحة والحس المتوفز والقلب البصير، ترى الحسن والإحسان في هذا الوجود بتجمعه؛ وتراه في كل أجزائه وأفراده. والتأمل في خلق الله حيثما اتجه النظر أو القلب أو الذهن، يمنح الإنسان رصيدًا ضخمًا من ذخائر الحسن والجمال، ومن إيقاعات التناسق والكمال، تجمع السعادة من أطرافها بأحلى ما في ثمارها من مذاق؛ وتسكبها في القلب البشري؛ وهو يعيش في هذا المهرجان الإلهي الجميل البديع المتقن، يتملى آيات الإحسان والإتقان في كل ما يراه وما يسمعه وما يدركه في رحلته على هذا الكوكب. ويتصل من وراء أشكال هذا العالم الفانية بالجمال الباقي المنبثق من جمال الصنعة الإلهية الأصيلة.
ولا يدرك القلب شيئًا من هذا النعيم في رحلته الأرضية إلا حين يستيقظ من همود العادة، ومن ملالة الألفة. وإلا حين يتسمع لإيقاعات الكون من حوله، ويتطلع إلى إيحاءاته. وإلا حين يبصر بنور الله فتتكشف له الأشياء عن جواهرها الجميلة كما خرجت من يد الله المبدعة. وإلا حين يتذكر الله كلما وقعت عينه أو حسه على شيء من بدائعه؛ فيحس بالصلة بين المبدع وما أبدع؛ فيزيد شعوره بجمال ما يرى وما يحس، لأنه يرى حينئذ من ورائه جمال الله وجلاله.
إن هذا الوجود جميل. وإن جماله لا ينفد. وإن الإنسان ليرتقي في إدراك هذا الجمال والاستمتاع به إلى غير ما حدود. قدر ما يريد. وفق ما يريده له مبدع الوجود.
وإن عنصر الجمال المقصود قصدًا في هذا الوجود. فإتقان الصنعة يجعل كمال الوظيفة في كل شيء، يصل إلى حد الجمال. وكمال التكوين يتجلى في صورة جميلة في كل عضو، وفي كل خلق. انظر. هذه النحلة. هذه الزهرة. هذه النجمة. هذا الليل. هذا الصبح. هذه الظلال. هذه السحب. هذه الموسيقى السارية في الوجود كله. هذا التناسق الذي لا عوج فيه ولا فطور!.
إنها رحلة ممتعة في هذا الوجود الجميل الصنع البديع التكوين؛ يلفتنا القرآن إليها لنتملاها، ونستمتع بها وهو يقول: {الذي أحسن كل شيء خلقه}. فيوقظ القلب لتتبع مواضع الحسن والجمال في هذا الوجود الكبير.
{الذي أحسن كل شيء خلقه}. {وبدأ خلق الإنسان من طين}.
ومن إحسانه في الخلق بدء خلق هذا الإنسان من طين. فالتعبير قابل لأن يفهم منه أن الطين كان بداءة، وكان في المرحلة الأولى. ولم يحدد عدد الأطوار التي تلت مرحلة الطين ولا مداها ولا زمنها، فالباب فيها مفتوح لأي تحقيق صحيح. وبخاصة حين يضم هذا النص إلى النص الآخر الذي في سورة المؤمنون. {خلق الإنسان من سلالة من طين}. فيمكن أن يفهم منه أنه إشارة إلى تسلسل في مراحل النشأة الإنسانية يرجع أصلًا إلى مرحلة الطين.
وقد يكون ذلك إشارة إلى بدء نشأة الخلية الحية الأولى في هذه الأرض؛ وأنها نشأت من الطين. وأن الطين كان المرحلة السابقة لنفخ الحياة فيها بأمر الله. وهذا هو السر الذي لم يصل إليه أحد. لا ما هو. ولا كيف كان. ومن الخلية الحية نشأ الإنسان. ولا يذكر القرآن كيف تم هذا، ولا كم استغرق من الزمن ومن الأطوار. فالأمر في تحقيق هذا التسلسل متروك لأي بحث صحيح؛ وليس في هذا البحث ما يصادم النص القرآني القاطع بأن نشأة الإنسان الأولى كانت من الطين. وهذا هو الحد المأمون بين الاعتماد على الحقيقة القرآنية القاطعة وقبول ما يسفر عنه أي تحقيق صحيح.
غير أنه يحسن بهذه المناسبة تقرير أن نظرية النشوء والارتقاء لدارون القائلة: بأن الأنواع تسلسلت من الخلية الواحدة إلى الإنسان في أطوار متوالية؛ وأن هناك حلقات نشوء وارتقاء متصلة تجعل أصل الإنسان المباشر حيوانًا فوق القردة العليا ودون الإنسان. أن هذه النظرية غير صحيحة في هذه النقطة وأن كشف عوامل الوراثة التي لم يكن دارون قد عرفها تجعل هذا التطور من نوع إلى نوع ضربًا من المستحيل. فهناك عوامل وراثة كامنة في خلية كل نوع تحتفظ له بخصائص نوعه؛ وتحتم أن يظل في دائرة النوع الذي نشأ منه، ولا يخرج قط عن نوعه ولا يتطور إلى نوع جديد. فالقط أصله قط وسيظل قطًا على توالي القرون. والكلب كذلك. والثور. والحصان. والقرد. والإنسان. وكل ما يمكن أن يقع حسب نظريات الوراثة هو الارتقاء في حدود النوع نفسه. دون الانتقال إلى نوع آخر. وهذا يبطل القسم الرئيسي في نظرية دارون التي فهم ناس من المخدوعين باسم العلم أنها حقيقة غير قابلة للنقض في يوم من الأيام!.
ثم نعود إلى ظلال القرآن!.
{ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين}.
من ماء النطفة الذي هو المرحلة الأولى في تطور الجنين: من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام إلى كمال التكوين الجنيني، في هذه السلالة التي تبدأ بالماء المهين. وإنها لرحلة هائلة حين ينظر إلى طبيعة التطورات التي تمر بها تلك النقطة الضائعة في ذلك الماء المهين. حتى تصل إلى الإنسان المقعد البديع التكوين! وإنها لمسافة شاسعة ضخمة بين الطور الأول والطور الأخير.
وذلك ما يعبر عنه القرآن في آية واحدة تصور هذه الرحلة المديدة:
{ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}.
يا الله. ما أضخم الرحلة! وما أبعد الشقة! وما أعظم المعجزة التي يمر عليها الناس غافلين!.
أين تلك النقطة الصغيرة المهينة من ذلك الإنسان الذي تصير إليه في النهاية، لولا أنها يد الله المبدعة التي تصنع هذه الخارقة. والتي تهدي تلك النقطة الصغيرة الضعيفة إلى اتخاذ طريقها في النمو والتطور والتحول من هيئتها الساذجة إلى ذلك الخلق المعقد المركب العجيب؟
هذا الانقسام في تلك الخلية الواحدة والتكاثر. ثم التنويع في أصناف الخلايا المتعددة ذات الطبيعة المختلفة، والوظيفة المختلفة؛ التي تتكاثر هي بدورها لتقوم كل مجموعة منها بتكوين عضو خاص ذي وظيفة خاصة. وهذا العضو الذي تكونه خلايا معينة من نوع خاص، يحتوي بدوره على أجزاء ذات وظائف خاصة وطبيعة خاصة، تكونها خلايا أكثر تخصصًا في داخل العضو الواحد. هذا الانقسام والتكاثر مع هذا التنويع كيف يتم في الخلية الأولى وهي خلية واحدة؟ وأين كانت تكمن تلك الخصائص كلها التي تظهر في ما بعد في كل مجموعة من الخلايا المتخصصة الناشئة من تلك الخلية الأولى؟ ثم أين كانت تكمن الخصائص المميزة لجنين الإنسان من سائر الأجنة؟ ثم المميزة لكل جنين إنساني من سائر الأجنة الإنسانية؟ ثم الحافظة لكل ما يظهر بعد ذلك في الجنين من استعدادات خاصة، ووظائف معينة، وسمات وشيات طوال حياته؟!.
ومن ذا الذي كان يمكن أن يتصور إمكان وقوع هذه الخارقة العجيبة لولا أنها وقعت فعلًا وتكرر وقوعها؟
إنها يد الله التي سوت هذا الإنسان؛ وإنها النفخة من روح الله في هذا الكيان.
إنها التفسير الوحيد الممكن لهذه العجيبة التي تتكرر في كل لحظة، والناس عنها غافلون. ثم هي النفخة من روح الله التي جعلت من هذا الكائن العضوي إنسانًا ذا سمع وذا بصر وذا إدراك إنساني مميز من سائر الكائنات العضوية الحيوانية: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}. وكل تعليل آخر عاجز عن تفسير تلك العجيبة التي تواجه العقل البشري بالحيرة الغامرة التي لا مخرج منها بغير ذلك التفسير.
ومع كل هذا الفيض من الفضل. الفضل الذي يجعل من الماء المهين ذلك الإنسان الكريم. الفضل الذي أودع تلك الخلية الصغيرة الضعيفة كل هذا الرصيد من القدرة على التكاثر والنماء، والتطور والتحول، والتجمع والتخصيص. ثم أودعها كل تلك الخصائص والاستعدادات والوظائف العليا التي تجعل من الإنسان إنسانًا. مع كل هذا الفيض فإن الناس لا يشكرون إلا في القليل: {قليلًا ما تشكرون}.
وفي ظل مشهد النشأة الأولى للإنسان، وأطوار هذه النشأة العجيبة، الخارقة لكل مألوف، وإن كانت تتكرر في كل لحظة، وتقع أمام الأنظار والأسماع. في ظل هذا المشهد يعرض اعتراضهم على النشأة الآخرة، وشكهم في البعث والنشور. فيبدو هذا الشك وذلك الاعتراض غريبين كل الغرابة:
{وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون} إنهم يستبعدون أن يخلقهم الله خلقًا جديدًا، بعد موتهم ودفنهم، وتحول أجسامهم إلى رفات يغيب في الأرض، ويختلط بذراتها، ويضل فيها، فماذا في هذا من غرابة أمام النشأة الأولى؟ لقد بدأ الله خلق الإنسان من طين. من هذه الأرض التي يقولون إن رفاتهم سيضل فيها ويختلط بها. فالنشأة الآخرة شبيهة بالنشأة الأولى، وليس فيها غريب ولا جديد! {بل هم بلقاء ربهم كافرون}. ومن ثم يقولون ما يقولون. فهذا الكفر بلقاء الله هو الذي يلقي على أنفسهم ظل الشك والاعتراض على الأمر الواضح الذي وقع مرة، والذي يقع ما هو قريب منه في كل لحظة.
لذلك يرد على اعتراضهم بتقرير وفاتهم ورجعتهم، مكتفيًا بالبرهان الحي الماثل في نشأتهم الأولى ولا زيادة:
{قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} هكذا في صورة الخبر اليقين. فأما ملك الموت من هو؟ وكيف يتوفى الأنفس فهذا من غيب الله، الذي نتلقى خبره من هذا المصدر الوثيق الأكيد. ولا زيادة على ما نتلقاه من هذا المصدر الوحيد.
وبمناسبة البعث الذي يعترضون عليه والرجعة التي يشكون فيها، يقفهم وجهًا لوجه أمام مشهد من مشاهد القيامة؛ مشهد حي شاخص حافل بالتأثرات والحركات والحوار كأنه واقع مشهود:
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحًا إنا موقنون ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}.
إنه مشهد الخزي والاعتراف بالخطيئة، والإقرار بالحق الذي جحدوه، وإعلان اليقين بما شكوا فيه، وطلب العودة إلى الأرض لإصلاح ما فات في الحياة الأولى. وهم ناكسو رءوسهم خجلًا وخزيًا. {عند ربهم}. الذي كانوا يكفرون بلقائه في الدنيا. ولكن هذا كله يجيء بعد فوات الأوان حيث لا يجدي اعتراف ولا إعلان.
وقبل أن يعلن السياق جواب استخذائهم الذليل، يقرر الحقيقة التي تتحكم في الموقف كله؛ وتتحكم قبل ذلك في حياة الناس ومصائرهم:
{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.
ولو شاء الله لجعل لجميع النفوس طريقًا واحدًا. هو طريق الهدى، كما وحد طريق المخلوقات التي تهتدي بإلهام كامن في فطرتها، وتسلك طريقة واحدة في حياتها من الحشرات والطير والدواب؛ أو الخلائق التي لا تعرف إلا الطاعات كالملائكة. لكن إرادة الله اقتضت أن يكون لهذا الخلق المسمى بالإنسان طبيعة خاصة، يملك معها الهدى والضلال؛ ويختار الهداية أو يحيد عنها؛ ويؤدي دوره في هذا الكون بهذه الطبيعة الخاصة، التي فطره الله عليها لغرض ولحكمة في تصميم هذا الوجود. ومن ثم كتب الله في قدره أن يملأ جهنم من الجنة ومن الناس الذين يختارون الضلالة، ويسلكون الطريق المؤدي إلى جهنم.
وهؤلاء المجرمون المعروضون على ربهم وهم ناكسو رءوسهم. هؤلاء ممن حق عليهم هذا القول. ومن ثم يقال لهم:
{فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا}.
يومكم هذا الحاضر. فنحن في المشهد في اليوم الآخر. ذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم، وإهمالكم الاستعداد له وأنتم في فسحة من الوقت. ذوقوا {إنا نسيناكم}. والله لا ينسى أحدًا. ولكنهم يعاملون معاملة المهملين المنسيين، معاملة فيها مهانة وفيها إهمال وفيها ازدراء.
{وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون}.
ويسدل الستار على المشهد. وقد قيلت الكلمة الفاصلة فيه. وترك المجرمون لمصيرهم المهين. ويحس قارئ القرآن وهو يجاوز هذه الآيات كأنه تركهم هناك، وكأنهم شاخصون حيث تركهم! وهذه إحدى خصائص التصوير القرآني المحيي للمشاهد الموحي للقلوب.